فصل: تفسير الآية رقم (109)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏}‏ ‏[‏109‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ أَنَّهُ يُعَاقِبُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مُعَاقِبُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ وَتَسْوِيدِ الْوُجُوهِ، وَيُثِيبُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى التَّصْدِيقِ وَالْوَفَاءِ بِعُهُودِهِمِ الَّتِي عَاهَدُوا عَلَيْهَا بِمَا وَصَفَ أَنَّهُ مُثِيبُهُمْ بِهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي جَنَانِهِ، مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا فَعَلَ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى الظُّلْمِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الظَّالِمَ إِنَّمَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ لِيَزْدَادَ إِلَى عِزِّهِ عِزَّةً بِظُلْمِهِ إِيَّاهُ، أَوْ إِلَى سُلْطَانِهِ سُلْطَانًا، أَوْ إِلَى مُلْكِهِ مُلْكًا، أَوْ إِلَى نُقْصَانٍ فِي بَعْضِ أَسْبَابِهِ يُتَمِّمُ بِهَا ظُلْمَ غَيْرِهِ فِيهِ مَا كَانَ نَاقِصًا مِنْ أَسْبَابِهِ عَنِ التَّمَامِ‏.‏ فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ جَمِيعُ مَا بَيْنَ أَقْطَارِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا مَعْنَى لِظُلْمِهِ أَحَدًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُظْلَمَ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِهِ شَيْءٌ نَاقِصٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَمَامٍ، فَيَتِمُّ ذَلِكَ بِظُلْمِ غَيْرِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏ وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ‏}‏، ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ تَكْرِيرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ اسْمَهُ مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏}‏ ظَاهِرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْمُهُ ظَاهِرًا مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ‏:‏ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْعَرَبِ‏:‏ ‏(‏أَمَّا زَيْدٌ فَذَهَبَ زَيْدٌ‏)‏، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَا أَرَى الْمَـوْتَ يَسْـبِقُ الْمَـوْتَ شَيْءٌ *** نَغَّـصَ الْمَـوْتُ ذَا الْغِنَـى وَالْفَقِـيرَا

فَأَظْهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ‏:‏ لَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرَ هَذَا الْبَيْتِ، لِأَنَّ مَوْضِعَ ‏(‏الْمَوْتِ‏)‏ الثَّانِي فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ كِنَايَةٍ، لِأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ خَبَرٌ، لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏}‏ فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقِصَّتَيْنِ مُفَارِقٌ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْأُخْرَى، مُكْتَفِيَةٌ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهَا، غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى الْأُخْرَى‏.‏ وَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏ ‏(‏لَا أَرَى الْمَوْتَ‏)‏، مُحْتَاجٌ إِلَى تَمَامِ الْخَبَرِ عَنْهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَنَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُوَجَّهُ مَعَانِيهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ، إِلَى الشَّوَاذِّ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَعَانِي، وَلَهُ فِي الْفَصِيحِ مِنَ الْمَنْطِقِ وَالظَّاهِرِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَفْهُومِ، وَجْهٌ صَحِيحٌ مَوْجُودٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏}‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِلَى اللَّهِ مَصِيرُ أَمْرِ جَمِيعِ خَلْقِهِ، الصَّالِحُ مِنْهُمْ وَالطَّالِحُ، وَالْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ، فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنْهُ الْجَزَاءَ، بِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُ أَحَدًا مِنْهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَخَاصَّةً، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ فِي‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْتُمْ‏)‏، فَكُنَّا كُلُّنَا، وَلَكِنْ قَالَ‏:‏ ‏(‏كُنْتُمْ‏)‏ فِي خَاصَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ صَنَعَ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ، كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ قَالَ‏:‏ عِكْرِمَةُ‏:‏ نَـزَلْتُ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ‏:‏ قَالَ عُمَرُ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ تَكُونُ لِأَوَّلِنَا وَلَا تَكُونُ لِآخِرِنَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي حِجَّةٍ حَجَّهَا وَرَأَى مِنَ النَّاسِ رِعَةً سَيِّئَةً، فَقَرَأَ هَذِهِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ، فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، يَعْنِي وَكَانُوا هُمُ الرُّوَاةُ الدُّعَاةُ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، إِذَا كُنْتُمْ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي وَصَفَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَا‏.‏ فَكَانَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ‏:‏ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، أُخْرِجُوا لِلنَّاسِ فِي زَمَانِكُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي ‏(‏قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ‏:‏ أَنْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ يَقُولُ‏:‏ لِمَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الدُّخَانِ‏:‏ 32‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ‏:‏ أَنْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ‏.‏ وَتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ يَقُولُ‏:‏ لِمَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الدُّخَانِ‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، تَجِيئُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ، تُدْخِلُونَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ‏.‏

حَدَّثَنَا عُبَيدُ بْنُ أَسْبَاطٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأُمَمِ اسْتِجَابَةً لِلْإِسْلَامِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَمْ تَكُنْ أُمَّةٌ أَكْثَرَ اسْتِجَابَةً فِي الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَدْ كَانَ مَا تَسْمَعُ مِنَ الْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ‏:‏ نَحْنُ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَ الْحَسَنُ، وَذَلِكَ أَنَّ‏:‏

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَلَّا إِنَّكُمْ وَفَّيْتُمُ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّه‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّه‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مُسْنِدُ ظَهْرِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ‏:‏ ‏(‏نَحْنُ نُكْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةً نَحْنُ آخِرُهَا وَخَيْرُهَا‏)‏‏.‏

وَأَمَّاقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ تَأْمُرُونَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ ‏{‏وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ‏.‏ وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ، وَعَنِ الْعَمَلِ بِمَا نَهَى عَنْهُ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏‏.‏ يَقُولُ‏:‏ تَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ‏:‏ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ، وَتُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَ‏(‏لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏)‏، هُوَ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْمُنْكَرُ هُوَ التَّكْذِيبُ، وَهُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ‏.‏

وَأَصْلُ ‏(‏الْمَعْرُوفِ‏)‏ كُلُّ مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِعْلُهُ، جَمِيلًا مُسْتَحْسَنًا، غَيْرَ مُسْتَقْبَحٍ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ طَاعَةُ اللَّهِ ‏(‏مَعْرُوفًا‏)‏، لِأَنَّهُ مِمَّا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَلَا يَسْتَنْكِرُونَ فِعْلَهُ‏.‏‏.‏

وَأَصْلُ ‏(‏الْمُنْكَرِ‏)‏، مَا أَنْكَرَهُ اللَّهُ، وَرَأَوْهُ قَبِيحًا فِعْلُهُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ ‏(‏مُنْكَرًا‏)‏، لِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ يَسْتَنْكِرُونَ فِعْلَهَا، وَيَسْتَعْظِمُونَ رُكُوبَهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ تُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ، فَتُخْلِصُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ، وَإِنَّمَا يُقَالُ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏، لِقَوْمٍ كَانُوا خِيَارًا فَتَغَيَّرُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ أَنْتُمْ خَيِّرُ أُمَّةٍ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 26‏]‏ وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 86‏]‏ فَإِدْخَالُ ‏(‏كَانَ‏)‏ فِي مِثْلِ هَذَا وَإِسْقَاطُهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعْرُوفٌ مَعْنَاهُ‏.‏ وَلَوْ قَالَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ قَائِلٌ‏:‏ ‏(‏كُنْتُمْ‏)‏، بِمَعْنَى التَّمَامِ، كَانَ تَأْوِيلُهُ‏:‏ خُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أَوْ‏:‏ وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، كَانَ مَعْنًى صَحِيحًا‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏.‏

وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ اللَّذَانِ قُلْنَا، أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ قَبْلُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ كُنْتُمْ خَيْرَ أَهْلِ طَرِيقَةٍ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏(‏الْأُمَّةُ‏)‏‏:‏ الطَّرِيقَةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏110‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَوْ صَدَّقَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ وَآجِلِ آخِرَتِهِمْ ‏{‏مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الْمُؤْمِنُونَ الْمُصَدِّقُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُمْ‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَخُوهُ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ وَأَخُوهُ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِمَّنْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ الْخَارِجُونَ عَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ اتِّبَاعُ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالتَّصْدِيقُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ دِينِ النَّصَارَى اتِّبَاعُ مَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي كِلَا الْكِتَابَيْنِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعَتْهُ وَمَبْعَثُهُ، وَأَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ‏.‏ وَكِلْتَا الْفِرْقَتَيْنِ-أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى- مُكَذِّبَةٌ، فَذَلِكَ فِسْقُهُمْ وَخُرُوجُهُمْ عَنْ دِينِهِمِ الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِهِ، الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ قَتَادَةُ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏، ذَمَّ اللَّهُ أَكْثَرَ النَّاسِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ لَنْ يَضُرَّكُمْ، يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، هَؤُلَاءِ الْفَاسِقُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ‏{‏إِلَّا أَذًى‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَلَكِنَّهُمْ يُؤْذُونَكُمْ بِشِرْكِهِمْ، وإِسْمَاعِكُمْ كُفْرَهُمْ، وَقَوْلُهُمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ وَعُزَيْرٍ، وَدُعَائِهِمْ إِيَّاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَلَنْ يَضُرُّوكُمْ بِذَلِكَ، ‏.‏

وَهَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ الَّذِي هُوَ مُخَالِفُ مَعْنَى مَا قَبْلُهُ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏(‏مَا اشْتَكَى شَيْئًا إِلَّا خَيْرًا‏)‏، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ مَحْكِيَّةٌ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذَى تَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى‏}‏، قَالَ‏:‏ أَذَى تَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى‏}‏، قَالَ‏:‏ إِشْرَاكُهُمْ فِي عُزَيْرِ وَعِيسَى وَالصَّلِيبِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ تَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ، يَدْعُونَكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ‏}‏ ‏[‏111‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَإِنْ يُقَاتِلْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُهْزَمُوا عَنْكُمْ، فَيُوَلُّوكُمْ أَدْبَارَهُمُ انْهِزَامًا‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ‏}‏، كِنَايَةٌ عَنِ انْهِزَامِهِمْ، لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يُحَوِّلُ ظَهْرَهُ إِلَى جِهَةِ الطَّالِبِ هَرَبًا إِلَى مَلْجَأٍ وَمَوْئِلٍ يَئِلُ إِلَيْهِ مِنْهُ، خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَالطَّالِبُ فِي أَثَرِهِ‏.‏ فَدُبُرُ الْمَطْلُوبِ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُحَاذِيَ وَجْهِ الطَّالِبِ الْهَازِمَةِ‏.‏

‏{‏ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ ثُمَّ لَا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، عَلَيْكُمْ، لِكَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِيمَانِكُمْ بِمَا آتَاكُمْ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَلْقَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَيَّدَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِكُمْ‏.‏

وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ، نَصْرُهُمْ عَلَى الْكَفَرَةِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

وَإِنَّمَا رُفِعَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ‏}‏ وَقَدْ جُزِمَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ‏}‏، عَلَى جَوَابِ الْجَزَاءِ، ائْتِنَافًا لِلْكَلَامِ، لِأَنَّ رُؤُوسَ الْآيَاتِ قَبْلَهَا بِالنُّونِ، فَأَلْحَقُ هَذِهِ بِهَا، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ‏:‏ 36‏]‏، رَفْعًا، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ فَاطِرٍ‏:‏ 36‏]‏ إِذْ لَمْ يَكُنْ رَأْسَ آيَةٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ‏}‏، أُلْزِمُوا الذِّلَّةُ‏.‏ وَ‏(‏الذِّلَّةُ‏)‏ ‏(‏الْفِعْلَةُ‏)‏ مِنْ ‏(‏الذُّلِّ‏)‏، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

‏(‏أَيْنَمَا ثَقِفُوا‏)‏ يَعْنِي‏:‏ حَيْثُمَا لَقُوا‏.‏

يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ أُلْزِمَ الْيَهُودُ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّلَّةَ أَيْنَمَا كَانُوا مِنَ الْأَرْضِ، وَبِأَيِّ مَكَانٍ كَانُوا مِنْ بِقَاعِهَا، مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هَوْذَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَإِنَّ الْمَجُوسَ لَتُجْبِيْهِمِ الْجِزْيَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا مَنْعَةَ لَهُمْ، وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَأَمَّا “الْحَبْلُ “ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ السَّبَبُ الَّذِي يَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ وَذَرَّارِيهِمْ، مِنْ عَهْدٍ وَأَمَانٍ تَقَدَّمُ لَهُمْ عَقْدُهُ قَبْلَ أَنْ يُثْقَفُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ بِعَهْدٍ ‏{‏وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ بِعَهْدِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهِدَ مِنَ النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا حُمَيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ‏:‏ عِكْرِمَةُ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهِدٍ مِنَ النَّاسِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهِدٍ مِنَ النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، فَهُوَ عَهْدٌ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ‏:‏ ‏(‏ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏)‏، فَهُوَ الْمِيثَاقُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعُهِدٍ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ الْعَهْدُ حَبْلُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِلَّا بِعَهْدٍ، وَهُمْ يَهُودٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْحَبْلُ الْعَهْدُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَتْهُ الْأَنْصَارُ فِي الْعَقَبَةِ‏:‏ ‏(‏أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّا قَاطِعُونَ فِيكَ حِبَالًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ عُهُودًا، قَالَ‏:‏ وَالْيَهُودُ لَا يَأْمَنُونَ فِي أَرْضٍ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ إِلَّا بِهَذَا الْحَبْلِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 55‏]‏، قَالَ‏:‏ فَلَيْسَ بَلَدٌ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا وَهُمْ فَوْقَ يَهُودَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ، هُمْ فِي الْبُلْدَانِ كُلُّهَا مُسْتَذَلُّونَ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 168‏]‏، يَهُودَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهِدٍ مِنَ النَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَلَبَ “الْبَاءَ “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ‏:‏ الَّذِي جَلَبَ “الْبَاءَ “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بِحَبْلٍ‏)‏، فِعْلٌ مُضْمَرٌ قَدْ تُرِكَ ذِكْرُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمِ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثَقِفُوا، إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ فَأُضْمِرَ ذَلِكَ، وَاسْتُشْهِدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

رَأَتْنِـي بِحَبْلَيْهَـا فَصَـدَّتْ مَخَافَـةً *** وَفِـي الْحَـبْلِ رَوْعَـاءُ الْفُـؤَادِ فَرُوقُ

وَقَالَ‏:‏ أَرَادَ‏:‏ أَقْبَلَتْ بِحَبَلَيْهَا، وَبُقُولِ الْآخَرِ‏:‏

حَـنَتْنِي حَانِيَـاتُ الدَّهْـرِ حَـتَّى *** كَـأَنِّي خَـاتِلٌ أَدْنُـو لِصَيْـدِ

قَـرِيبُ الْخَـطُوِ يَحْسِـبُ مَـنْ رَآنِـي *** وَلَسْـتُ مُقَيـدًا، أَنِّـي بِقَيْـدِ

فَأَوْجَبَ إِعْمَالَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَإِظْهَارَ صِلَتِهِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ‏.‏ وَذَلِكَ فِي مَذَاهِبِ الْعَرَبِيَّةِ ضَعِيفٌ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ بَعِيدٌ‏.‏ وَأَمَّا مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ لِقَوْلِهِ مِنَ الْأَبْيَاتِ، فَغَيْرُ دَالٍّ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، لِأَنَّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏ ‏(‏رَأَتْنِي بِحَبَلَيْهَا‏)‏، دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهَا رَأَتْهُ بِالْحَبَلِ مُمْسِكًا، فَفِي إِخْبَارِهِ عَنْهَا أَنَّهَا “رَأَتْهُ بِحَبَلَيْهَا‏)‏، إِخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّهَا رَأَتْهُ مُمْسِكًا بِالْحَبْلَيْنِ‏.‏ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ مُسْتَغْنًى عَنْ ذَكَرِ “الْإِمْسَاكِ‏)‏، وَكَانَتْ “الْبَاءُ “ صِلَةً لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏رَأَتْنِي‏)‏، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏أَنَا بِاللَّهِ‏)‏، مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ، وَمُعَرَّفَةِ السَّامِعِ مَعْنَاهُ، أَنْ تَكُونَ “الْبَاءُ “ مُحْتَاجَةً إِلَى كَلَامٍ يَكُونُ لَهَا جَالِبًا غَيْرَ الَّذِي ظَهَرَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى‏:‏ ‏(‏أَنَا بِاللَّهِ مُسْتَعِينٌ‏)‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ اسْتِثْنَاءٌ خَارِجٌ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ‏.‏قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَشَدِّ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ مَرْيَمَ‏:‏ 62‏]‏

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ‏:‏ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى‏:‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمِ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثَقِفُوا، أَيْ‏:‏ بِكُلِّ مَكَانٍ إِلَّا بِمَوْضِعِ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمِ الذِّلَّةُ فِي الْأَمْكِنَةِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَكَانِ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ الْمُفَصَّلَ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا كَمَا زَعَمَ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ إِذَا ثَقِفُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ عَلَيْهِمِ الْمَسْكَنَةُ‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةَ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ أَيْنَمَا ثَقِفُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بِغَيْرِ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَغَيْرِ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، فَالذِّلَّةُ مَضْرُوبَةٌ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَبْلُ‏.‏ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏، اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ إِذَا ثُقِّفُوا بِعَهْدٍ وَذِمَّةٍ أَنْ لَا تَكُونُ الذِّلَّةُ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ‏.‏ وَذَلِكَ خِلَافَ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَتِهِمْ، وَخِلَافُ مَا هُمْ بِهِ مِنَ الصِّفَةِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَيْضًا بِذَلِكَ فَسَادَ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَيْضًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ عِنْدَنَا أَنَّ “الْبَاءَ “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏، أُدْخِلَتْ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبِلَ الِاسْتِثْنَاءِ مُقْتَضٍ فِي الْمَعْنَى “الْبَاءَ “‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا‏}‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمِ الذِّلَّةُ بِكُلِّ مَكَانٍ ثَقِفُوا ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بِالْأَوَّلِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَنْهُ‏.‏ وَمَعْنَاهُ‏:‏ وَلَكِنْ يُثَقِّفُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 92‏]‏، فَالْخَطَأُ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا بِمَا عَمِلَ فِيمَا قَبِلَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ بِمَعْنَى‏:‏ ‏(‏إِلَّا خَطَأً‏)‏، فَإِنَّ لَهُ قَتْلَهُ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَلَكِنْ قَدْ يَقْتُلُهُ خَطَأً‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَبَ “الْبَاءَ “ الَّتِي بَعُدَ “إِلَّا “ الْفِعْلُ الَّذِي يَقْتَضِيهَا قَبْلَ ‏(‏إِلَّا‏)‏، فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالَّذِي قَبْلَهُ، بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا لُقُّوا، فَالذِّلَّةُ زَائِلَةٌ عَنْهُمْ، بَلِ الذِّلَّةُ ثَابِتَةٌ بِكُلِّ حَالٍ‏.‏ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ مَا بَيَّنَّا آنِفًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏، وَتَحَمَّلُوا غَضَبَ اللَّهِ فَانْصَرَفُوا بِهِ مُسْتَحِقِّيهِ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ، وَمَعْنَى “الْمَسْكَنَةِ “ وَأَنَّهَا ذُلُّ الْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ وَخُشُوعُهُمَا، وَمَعْنَى‏:‏ ‏(‏الْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ‏)‏ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏، يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ‏)‏، أَيْ بَوَّءَهُمُ الَّذِي بَاءُوا بِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وضَرَبَ الذِّلَّةَ عَلَيْهِمْ، بَدَلَ‌‌‌‌ مِمَّا كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَقُولُ‏:‏ مِمَّا كَانُوا يَجْحَدُونَ أَعْلَامَ اللَّهِ وَأَدِلَّتَهُ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ، وَمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَبِمَا كَانُوا يَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَرُسُلُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، اعْتِدَاءً عَلَى اللَّهِ وَجُرْأَةَ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَبِغَيْرِ حَقٍّ اسْتَحَقُّوا مِنْهُمُ الْقَتْلَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ أُلْزِمُوا الذِّلَّةُ بِأَيِّ مَكَانٍ لُقُّوا، إِلَّا بِذِمَّةٍ مِنَ اللَّهِ وَذِمَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْصَرَفُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مُتَحَمِّلِيهِ، وَأُلْزِمُوا ذُلَّ الْفَاقَةِ وَخُشُوعَ الْفَقْرِ، بَدَلًا مِمَّا كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ وَحُجَجِهِ، وَيَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا وَاعْتِدَاءً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏112‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمِ الْأَنْبِيَاءَ، وَمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ، وَاعْتِدَائِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “الِاعْتِدَاءِ “ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

فَأَعْلَمَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ، مَا فَعَلَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ إِحْلَالِ الذِّلَّةِ وَالْخِزْيِ بِهِمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، مَعَ مَا ذَخَرَ لَهُمْ فِي الْأَجَلِّ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ وَأَلِيمِ الْعَذَابِ، إِذْ تَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُ تَذْكِيرًا مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَوْضِعِ الْبَلَاءِ الَّذِي مِنْ قِبَالِهِ أَتَوْا لِيُنِيبُوا وَيَذَّكَّرُوا، وَعِظَةً مِنْهُ لِأُمَّتِنَا أَنْ لَا يَسْتَنُّوا بِسَنَتِهِمْ وَيَرْكَبُوا مِنْهَاجَهُمْ، فَيَسَلُكُ بِهِمْ مَسَالِكَهُمْ، وَيَحِلُّ بِهِمْ مَنْ نِقَمِ اللَّهِ وَمُثُلَاتِهِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏، اجْتَنِبُوا الْمَعْصِيَةَ وَالْعُدْوَانَ، فَإِنَّ بِهِمَا أُهْلِكَ مَنْ أُهْلِكُ قَبْلَكُمْ مِنَ النَّاسِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏113‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً‏}‏، لَيْسَ فَرِيقَا أَهْلِ الْكِتَابِ، أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَالْكُفْرِ‏:‏ سَوَاءً‏.‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَسَاوِينَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ لَيْسُوا مُتَعَادِلِينَ، وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ‏.‏‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً‏}‏، لِأَنَّ فِيهِ ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏، ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَهُ، الْمُؤْمِنَةِ مِنْهُمَا وَالْكَافِرَةِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً‏}‏، أَيْ‏:‏ لَيْسَ هَؤُلَاءِ سَوَاءً، الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُونَ‏.‏ ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْصِفَةِ الْفِرْقَةِ الْمُؤْمِنَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَدْحَهُمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، بَعْدَ مَا وَصَفَ الْفِرْقَةَ الْفَاسِقَةَ مِنْهُمْ بِمَا وَصَفَهَا بِهِ مِنَ الْهَلَعِ، وَنَخْبِ الْجَنَانِ، وَمُحَالِفَةِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، وَمُلَازِمَةِ الْفَاقَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَتَحَمُّلِ خِزْيِ الدُّنْيَا وَفَضِيحَةِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏، الْآيَاتَ الثَّلَاثَ، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏‏.‏

وَقَدْ تَوَهَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْمُقَدَّمَيْنِ مِنْهُمْ فِي صِنَاعَتِهِمْ‏:‏ أَنَّ مَا بَعْدَ “سَوَاءً “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏)‏، تَرْجَمَةٌ عَنْ “سَوَاءٍ “ وَتَفْسِيرٌ عَنْهُ، بِمَعْنَى‏:‏ لَا يَسْتَوِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ‏.‏ وَزَعَمُوا أَنَّ ذِكْرَ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى، تُرِكَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ، وَهِيَ ‏(‏الْأُمَّةُ الْقَائِمَةُ‏)‏، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ‏:‏

عَصَيْـتُ إِلَيْهَـا الْقَلْـبَ‏:‏ إِنِّـي لِأَمْرِهَا *** سَـمِيعٌ، فَمَـا أَدْرِي أَرُشْـدٌ طِلَابُهَـا‏؟‏

وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏(‏أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ‏)‏، اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَرْشَدَ‏)‏ مِنْ ذِكْرٍ ‏(‏أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ‏)‏، ‏.‏ وَبُقُولِ الْآخَرِ‏:‏

أَرَاكَ فَـلَا أَدْرِي أَهَـمٌّ هَمَمْتُـهُ‏؟‏ *** وَذُو الْهَـمِّ قِدْمًـا خَاشِـعٌ مُتَضَـائِلُ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ قَوْلُ الْقَائِلِ الْمُرِيدِ أَنْ يَقُولَ‏:‏ ‏(‏سَوَاءٌ أَقَمْتَ أَمْ قَعَدْتَ‏)‏‏:‏ ‏(‏سَوَاءٌ أَقَمْتَ‏)‏، حَتَّى يَقُولَ‏:‏ ‏(‏أَمْ قَعَدْتَ‏)‏‏.‏، وَإِنَّمَا يُجِيزُونَ حَذْفَ الثَّانِي فِيمَا كَانَ مِنَ الْكَلَامِ مُكْتَفِيًا بِوَاحِدٍ، دُونَ مَا كَانَ نَاقِصًا عَنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ نَحْو‏:‏ ‏(‏مَا أُبَالِي‏)‏ أَوْ ‏(‏مَا أَدْرِي‏)‏، فَأَجَازُوا فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏مَا أُبَالِي أَقَمْتَ‏)‏، وَهُمْ يُرِيدُونَ‏:‏ ‏(‏مَا أُبَالِي أَقَمْتَ أَمْ قَعَدْتَ‏)‏، لِاكْتِفَاءِ “مَا أُبَالِي “ بِوَاحِدٍ وَكَذَلِكَ فِي “مَا أَدْرِي “‏.‏ وَأَبَوُا الْإِجَازَةَ فِي ‏(‏سَوَاءً‏)‏، مِنْ أَجْلِ نُقْصَانِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِوَاحِدٍ، فَأَغْفَلُوا فِي تَوْجِيهِهِمْ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ، إِلَى مَا وَجَّهُوهُ إِلَيْهِ-مَذَاهِبَهُمْ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِذْ أَجَازُوا فِيهِ مِنَ الْحَذْفِ مَا هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ فِي الْكَلَامِ مَعَ ‏(‏سَوَاءً‏)‏، وَأَخْطَأُوا تَأْوِيلَ الْآيَةِ‏.‏ فَـ “سَوَاءً “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى التَّمَامِ وَالِاكْتِفَاءِ، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ الْآيَاتَ الثَّلَاثَ، نَـزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ، وأُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمِنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ، فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَرَسَّخُوا فِيهِ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ‏:‏ مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا تَبِعَهُ إِلَّا أَشْرَارُنَا‏!‏ وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارِنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ الْآيَةَ، يَقُولُ‏:‏ لَيْسَ كُلُّ الْقَوْمِ هَلَكَ، قَدْ كَانَ لِلَّهِ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَلَامٍ أَخُوهُ، وَسَعْيَةُ، وَمُبَشِّرٌ، وأُسَيْدٌ وَأَسَدٌ ابْنًا كَعْبٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ الْقَائِمَةُ بِحَقِّ اللَّهِ، سَوَاءً عِنْدَ اللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَا يَسْتَوِي أَهْلُ الْكِتَابِ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةً قَائِمَةً‏)‏، الْآيَةَ، يَقُولُ‏:‏ لَيْسَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، كَمَثَلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ قَائِمَةٌ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ قَدْ تَمَّتِ الْقِصَّةُ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً‏}‏، عَنْ إِخْبَارِ اللَّهِ بِأَمْرِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ عَنْ مَدْحِ مُؤْمِنِهِمْ وَوَصْفِهِمْ بِصِفَتِهِمْ، عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيجٍ‏.‏

وَيَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، جَمَاعَةٌ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَقِّ‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَىمَعْنَى “الْأُمَّةِفِي قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ “ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَأَمَّا ‏(‏الْقَائِمَةُ‏)‏، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهَا‏:‏ الْعَادِلَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَادِلَةٌ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهَا قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَّ بِهِ فِيهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَائِمَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أُمَّةٌ مُهْتَدِيَةٌ، قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَمْ تَنْـزَعْ عَنْهُ وَتَتْرُكُهُ كَمَا تَرَكَهُ الْآخَرُونَ وَضَيَّعُوهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏.‏ بَلْ مَعْنَى ‏(‏قَائِمَةٌ‏)‏، مُطِيعَةٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏، الْآيَةَ، يَقُولُ‏:‏ لَيْسَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَمَثَلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ قَانِتَةٌ لِلَّهِ وَ‏(‏الْقَانِتَةُ‏)‏، الْمُطِيعَةُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمِنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ سَائِرُ الْأَقْوَالِ الْأُخَرِ مُتَقَارِبَةَ الْمَعْنَى مِنْ مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ فِي ذَلِكَ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قَائِمَةٌ‏)‏، مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى الْهُدَى وَكِتَابِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ، وَالْعَدْلِ وَالطَّاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ، مِنْ صِفَةِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏

‏(‏مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً‏)‏، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا‏.‏

فَالْقَائِمُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ‏:‏ هُوَ الثَّابِتُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ جَمَاعَةٌ مُعْتَصِمَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَمَسِّكَةٌ بِهِ، ثَابِتَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ وَمَا سَنَّ لَهُمْ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏113‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ‏}‏، يَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ‏.‏ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏آيَاتِ اللَّهِ‏}‏، مَا أَنْـزَلَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ يَتْلُونَ ذَلِكَ آنَاءَ اللَّيْلِ، يَقُولُ‏:‏ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، فَيَتَدَبَّرُونَهُ وَيَتَفَكَّرُونَ فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا ‏(‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏)‏، فَسَاعَاتُ اللَّيْلِ، وَاحِدُهَا ‏(‏إِنْيٌ‏)‏، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

حُـلْوٌ وَمُـرٌّ كَـعَطْفِ الْقِـدْحِ مِرَّتُـهُ *** فِـي كُـلِّ إِنْـيٍ حَـذَاهُ اللَّيْـلُ يَنْتَعِـلُ

وَقَدْ قِيلَ إِنَّ وَاحِدَ ‏(‏الْآنَاءِ‏)‏، “إِنًى “ مَقْصُورٌ، كَمَا وَاحِدُ “الْأَمْعَاءِ “ “مِعًى “‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ تَأْوِيلُهُ‏:‏ سَاعَاتُ اللَّيْلِ، كَمَا قُلْنَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏، أَيْ‏:‏ سَاعَاتُ اللَّيْلِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ ‏{‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏، سَاعَاتُ اللَّيْلِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ‏:‏ سَمِعَنَا الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ ‏{‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏، سَاعَاتُ اللَّيْلِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ ‏{‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏، جَوْفُ اللَّيْلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏، أَمَّا ‏{‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏، فَجَوْفُ اللَّيْلِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى بِذَلِكَ قَوْمٌ كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏، صَلَاةُ الْعَتَمَةُ، هُمْ يُصَلُّونَهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُصَلِّيهَا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏:‏ احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، كَانَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِهِ وَنِسَائِهِ‏:‏ فَلَمْ يَأْتِنَا لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى ذَهَبَ لَيْلٌ، فَجَاءَ وَمِنَّا الْمُصَلِّي وَمِنَّا الْمُضْطَجِعُ، فَبَشَّرَنَا وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ لَا يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏!‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ الْعَشَاءَ-يُرِيدُ الْعَتَمَةَ- فَقَالَ لَنَا‏:‏ مَا عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَنْتَظِرُ هَذَّةَ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ غَيْرُكُمْ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَنَـزَلَتْ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ كَانُوا يَصِلُونَ فِيمَا بَيْنُ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّهَا نَـزَلَتْ‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ فِيمَا بَيْنُ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا، مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَصَفُّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِأَنَّهُمْ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَهِيَ آنَاؤُهُ، وَقَدْ يَكُونُ تَالِّيهَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ تَالِيًا لَهَا آنَاءَ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَلَاهَا فِيمَا بَيْنُ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، وَمَنْ تَلَاهَا جَوْفَ اللَّيْلِ، فَكُلٌّ تَالٍ لَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ‏.‏ غَيْرُ أَنَّ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنِيَ بِذَلِكَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يُصَلِّيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَوَصَفَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَهَا دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏، فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى “السُّجُودِ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، اسْمُ الصَّلَاةِ لَا لِلسُّجُودِ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَكُونُ فِي السُّجُودِ وَلَا فِي الرُّكُوعِ‏.‏ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ‏:‏ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، ‏.‏

وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُونَ فِيهَا، فَـ ‏(‏السُّجُودُ‏)‏، هُوَ “السُّجُودُ “ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِوَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏114‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، يُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ؛ وَلَيْسُوا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَيَكْذِبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَيُنْكِرُونَ الْمُجَازَاةَ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ‏.‏ ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَيَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ تَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏.‏ ‏{‏وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَيَبْتَدِرُونَ فِعْلَ الْخَيِّرَاتِ خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ مُعَاجَلَتِهِمْ مَنَايَاهُمْ‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، هُمْ مِنْ عِدَادِ الصَّالِحِينَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَاسِقًا، قَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ لِكَفْرِهِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَقَتْلِهِمِ الْأَنْبِيَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِصْيَانِهِ رَبَّهُ وَاعْتِدَائِهِ فِي حُدُودِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏115‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ‏}‏، جَمِيعًا، رَدًّا عَلَى صِفَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏.‏

وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَبَعْضُ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ بِالتَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا‏:‏ ‏(‏وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ‏)‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَمَا تَفْعَلُوا، أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يَكْفُرُكُمُوهُ رَبُّكُمْ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْبَصْرَةِ يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ جَائِزًا بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، فِي الْحَرْفَيْنِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا‏:‏ ‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ‏}‏، بِالْيَاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَيْهِمَا، يَعْنِي بِذَلِكَ الْخَبَرَ عَنِ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ، التَّالِيَةِ آيَاتَ اللَّهِ‏.‏

وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْآيَاتِ، خَبَرٌ عَنْهُمْ‏.‏ فَإِلْحَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ كَانَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنْ صِفَتِهِمْ بِمَعَانِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا، أَولَى مِنْ صَرْفِهَا عَنْ مَعَانِي مَا قَبْلَهَا‏.‏ وَبِالَّذِي اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ التَّغْلِبِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهُمَا جَمِيعًا بِالْيَاءِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا، عَلَى مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ‏:‏ وَمَا تَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ خَيْرٍ، وَتَعْمَلُ مِنْ عَمَلٍ لِلَّهِ فِيهِ رِضًى، فَلَنْ يَكْفُرُهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ فَلَنْ يُبْطِلَ اللَّهُ ثَوَابَ عَمَلِهِمْ ذَلِكَ، وَلَا يَدَعُهُمْ بِغَيْرِ جَزَاءٍ مِنْهُ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُجْزِلُ لَهُمُ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، وَيَسْنِي لَهُمُ الْكَرَامَةَ وَالْجَزَاءَ‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى “الْكُفْرِ “ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِهِ، وَأَنَّ أَصْلَهُ تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ

فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَنْ يُكْفَرُوهُ‏}‏، فَلَنْ يُغَطَّى عَلَى مَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَيَتْرُكُوا بِغَيْرٍ مُجَازَاةٍ، وَلَكِنَّهُمْ يُشْكَرُونَ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ، فَيُجْزِلُ لَهُمُ الثَّوَابَ فِيهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ تَأَوَّلَ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكَفِّرُوهُ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ لَنْ يَضِلَّ عَنْكُمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بِمِثْلِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنِ اتَّقَاهُ، لِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَحَافِظٌ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةُ حَتَّى يُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا وَيُجَازِيَهُمْ بِهَا، تَبْشِيرًا مِنْهُ لَهُمْ جَلَّ ذِكْرِهِ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، وَحَضًّا لَهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي ارْتَضَاهَا لَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًاوَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏116‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْأُمَّةِ الْأُخْرَى الْفَاسِقَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ، وَأَنَّهُمْ قَدْ بَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنْهُ، وَلِمَنْ كَانَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ‏{‏لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ لَنْ تَدْفَعَ أَمْوَالُهُ الَّتِي جَمَعَهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَوْلَادُهُ الَّذِينَ رَبَّاهُمْ فِيهَا، شَيْئًا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ أَخَّرَهَا لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا فِي الدُّنْيَا إِنْ عَجَّلَهَا لَهُمْ فِيهَا‏.‏

وَإِنَّمَا خَصَّ أَوْلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ، لِأَنَّ أَوْلَادَ الرَّجُلِ أَقْرَبُ أَنْسِبَائِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى مَالِهِ أَقْدَرُ مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ، وَأَمْرُهُ فِيهِ أَجَوَّزَ مِنْ أَمْرِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ‏.‏ فَإِذَا لَمْ يُغْنِ عَنْهُ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ، وَمَالِهِ الَّذِي هُوَ نَافِذُ الْأَمْرِ فِيهِ، فَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَسَائِرِ أَنْسِبَائِهِ وَأَمْوَالِهِمْ، أَبْعَدُ مِنْ أَنْ تُغْنِيَ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ‏}‏‏.‏ وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ أَصْحَابَهَا، لِأَنَّهُمْ أَهْلَهَا الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يُفَارِقُونَهَا، كَصَاحِبِ الرَّجُلِ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ، وَقَرِينُهُ الَّذِي لَا يُزَايِلُهُ‏.‏ ثُمَّ وَكَّدَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ ‏(‏فِيهَا خَالِدُونَ‏)‏، أَنَّ صُحْبَتَهُمْ إِيَّاهَا صُحْبَةٌ لَا انْقِطَاعَ لَهَا، إِذْ كَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُفَارِقُ صَاحِبَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَيُزَايِلُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صُحْبَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا النَّارَ الَّتِي أَصْلَوْهَا، وَلَكِنَّهَا صُحْبَةٌ دَائِمَةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ‏.‏ نُعَوِّذُ بِاللَّهِ مِنْهَا وَمِمَّا قَرَّبَ مِنْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ شَبَهُ مَا يُنْفِقُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ‏:‏ شَبَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ الْكَافِرُ مِنْ مَالِهِ، فَيُعْطِيهِ مَنْ يُعْطِيهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى رَبِّهِ وَهُوَ لِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ جَاحِدٌ، وَلِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَذِّبٌ، فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ نَافِعِهِ مَعَ كُفْرِهِ، وَأَنَّهُ مُضْمَحِلٌّ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، ذَاهِبٌ بَعْدَ الَّذِي كَانَ يَرْجُو مِنْ عَائِدَةِ نَفْعِهِ عَلَيْهِ كَشِبْهِ رِيحٍ فِيهَا بِرَدٌّ شَدِيدٌ، أَصَابَتْ هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي فِيهَا الْبَرْدُ الشَّدِيدُ ‏{‏حَرْثَ قَوْمٍ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ زَرَعَ قَوْمٍ قَدْ أَمَّلُوا إِدْرَاكَهُ، وَرَجَوْا رَيْعَهُ وَعَائِدَةَ نَفْعِهِ ‏{‏ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ أَصْحَابُ الزَّرْعِ، عَصَوُا اللَّهَ، وَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ ‏(‏فَأَهْلَكَتْهُ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ فَأَهْلَكَتِ الرِّيحُ الَّتِي فِيهَا الصَّرُّ زَرْعَهُمْ ذَلِكَ، بَعْدَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمَلِ وَرَجَاءِ عَائِدَةِ نَفْعِهِ عَلَيْهِمْ‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَكَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِنَفَقَةِ الْكَافِرِ وَصَدَقَتِهِ فِي حَيَاتِهِ، حِينَ يَلْقَاهُ، يُبْطِلُ ثَوَابَهَا وَيُخَيِّبُ رَجَاؤَهُ مِنْهَا‏.‏ وَخَرَجَ الْمَثَلُ لِلنَّفَقَةِ، وَالْمُرَادُ بِـ “الْمَثَلُ “ صَنِيعُ اللَّهِ بِالنَّفَقَةِ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، فَهُوَ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي مِثْلِهِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 17‏]‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ،‏:‏ مَثَلُ إِبْطَالِ اللَّهِ أَجْرَ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏.‏ وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُ ذِكْرِ ‏(‏إِبْطَالِ اللَّهِ أَجْرَ ذَلِكَ‏)‏، لِدَلَالَةِ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، وَلِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ ذَلِكَ مَعْنَاهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى “النَّفَقَةِ “ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ النَّفَقَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي النَّاسِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏، قَالَ‏:‏ نَفَقَةُ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ قَوْلُهُ الَّذِي يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، مِمَّا لَا يُصَدِّقُهُ بِقَلْبِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَثَلُ مَا يَقُولُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، كَمَثَلٍ هَذَا الزَّرْعِ إِذَا زَرَعَهُ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ، فَأَصَابَهُ رِيحٌ فِيهَا صِرٌّ، أَصَابَتْهُ فَأَهْلَكَتْهُ‏.‏ فَكَذَلِكَ أَنْفَقُوا فَأَهْلَكَهُمْ شِرْكُهُمْ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَبْلُ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُنَا تَأْوِيلَ “الْحَيَاةِ الدُّنْيَا “ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَأَمَّا “الصِّرُّ “ فَإِنَّهُ شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَذَلِكَ بِعُصُوفٍ مِنَ الشَّمَالِ فِي إِعْصَارِ الطَّلِّ وَالْأَنْدَاءِ، فِي صَبِيحَةٍ مُعْتِمَةٍ بِعُقْبِ لَيْلَةٍ مُصْحِيَةٍ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا حُمَيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، قَالَ‏:‏ بَرْدٌ شَدِيدٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، قَالَ‏:‏ بَرْدٌ شَدِيدٌ وَزَمْهَرِيرٌ‏.‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ بَرْدٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏الصِّرُّ‏)‏، الْبَرْدُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، أَيْ‏:‏ بَرْدٌ شَدِيدٌ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي ‏(‏الصِّرِّ‏)‏، الْبَرْدُ الشَّدِيدُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ رِيحٌ فِيهَا بَرُدٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏صِرٌّ‏)‏، بَارِدَةٌ أَهْلَكَتْ حَرْثَهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْعَرَبُ تَدْعُوهَا ‏(‏الضَّرِيبُ‏)‏، تَأْتِي الرِّيحُ بَارِدَةً فَتُصْبِحُ ضَرِيبًا قَدْ أَحْرَقَ الزَّرْعَ، تَقُولُ‏:‏ ‏(‏قَدْ ضُرِبَ اللَّيْلَةَ‏)‏ أَصَابَهُ ضَرِيبُ تِلْكَ الصِّرِّ الَّتِي أَصَابَتْهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ‏:‏ ‏{‏رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏، قَالَ‏:‏ رِيحٌ فِيهَا بَرُدٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏117‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مَا فَعَلَ بِهِمْ، مِنْ إِحْبَاطِهِ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ وَإِبْطَالِهِ أُجُورَهَا ظُلْمًا مِنْهُ لَهُمْ يَعْنِي‏:‏ وَضْعًا مِنْهُ لِمَا فَعَلَ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، بَلْ وَضَعَ فِعْلَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَفَعَلَ بِهِمْ مَا هُمْ أَهْلُهُ‏.‏ لِأَنَّ عَمَلَهُمُ الَّذِي عَمِلُوهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ وَهُمْ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ دَائِنُونَ، وَلِأَمْرِهِ مُتَّبَعُونَ، وَلِرُسُلِهِ مُصَدِّقُونَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَهُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، وَلِأَمْرِهِ مُخَالِفُونَ، وَلِرُسُلِهِ مُكَذِّبُونَ، بَعْدَ تَقَدُّمٍ مِنْهُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا مِنْ عَامِلٍ إِلَّا مَعَ إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لَهُ، وَالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ، وَتَصْدِيقِ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ، وَتَوْكِيدِهِ الْحُجَجَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ‏.‏ فَلَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ مَا فُعِلَ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ، مِنْ إِحْبَاطِ وَفْرِ عَمَلِهِ لَهُ ظَالِمًا، بَلِ الْكَافِرُ هُوَ الظَّالِمُ نَفْسَهُ، لِإِكْسَابِهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَخِلَافِ أَمْرِهِ، مَا أَوْرَدَهَا بِهِ نَارَ جَهَنَّمَ، وَأَصْلَاهَا بِهِ سَعِيرَ سَقَرَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ ‏{‏لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ وَأَصْدِقَاءَ لِأَنْفُسِكُمْ ‏{‏مِنْ دُونِكُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مِنْ دُونِ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

وَإِنَّمَا جَعَلَ “الْبِطَانَةَ “ مَثَلًا لِخَلِيلِ الرَّجُلِ، فَشَبَّهَهُ بِمَا وَلِيَ بَطْنَهُ مِنْ ثِيَابِهِ، لِحُلُولِهِ مِنْهُ-فِي اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِهِ وَمَا يَطْوِيهِ عَنْ أَبَاعِدِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَقَارِبِهِ- مَحَلَ مَا وَلِيَ جَسَدَهُ مِنْ ثِيَابِهِ‏.‏

فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكَفَّارِ بِهِ أَخِلَّاءَ وَأَصْفِيَاءَ، ثُمَّ عَرَّفَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَهُمْ مُنْطَوُونَ مِنَ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ، وَبَغْيهِمْ إِيَّاهُمُ الْغَوَائِلَ، فَحَذَّرَهُمْ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَمِنْ مُخَالَّتِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا‏}‏، يَعْنِي لَا يَسْتَطِيعُونَكُمْ شَرًّا، مِنْ ‏(‏أَلَوَتُ آلُو أَلْوًا‏)‏، يُقَالُ‏:‏ ‏(‏مَا أَلَا فُلَانَ كَذَا‏)‏، أَيْ‏:‏ مَا اسْتَطَاعَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

جَـهْرَاءُ لَا تَـأْلُو، إِذَا هِـيَ أَظْهَـرَتْ، *** بَصَـرًا، وَلَا مِـنْ عَيْلَـةٍ تُغْنِينـِي

يَعْنِي‏:‏ لَا تَسْتَطِيعُ عِنْدَ الظَّهْرِ إِبْصَارًا‏.‏

وَإِنَّمَا يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا‏}‏، الْبِطَانَةَ الَّتِي نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِهَا مِنْ دُونِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْبِطَانَةَ لَا تَتْرُكُكُمْ طَاقَتَهَا‌‌ خَبَالًا أَيْ لَا تَدَعُ جُهْدَهَا فِيمَا أَوْرَثَكُمُ الْخَبَالَ‏.‏

وَأَصْلُ “الْخَبْلِ “ وَ‏(‏الْخَبَالِ‏)‏، الْفَسَادُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏مِنْ أُصِيبَ بِخَبَلٍ أَوْ جِرَاح‏)‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَدُّوا عُنَّتَكُمْ، يَقُولُ‏:‏ يَتَمَنَّوْنَ لَكُمُ الْعَنَتَ وَالشَّرَّ فِي دِينِكُمْ وَمَا يَسُوءُكُمْ وَلَا يَسُرُّكُمْ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخَالِطُوهُمْ حُلَفَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ مِنْهُمْ، وَيُصَافُوْنَهُمُ الْمَوَدَّةَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّ يَسْتَنْصِحُوْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنَ الْيَهُودِ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ، يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ تَخَوُّفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا‏}‏، فِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏.‏ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏، نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَدْخِلُوا الْمُنَافِقِينَ، أَوْ يُؤَاخُوهُمْ، أَوْ يَتَوَلَّوْهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏، هُمُ الْمُنَافِقُونَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَسْتَدْخِلُوا الْمُنَافِقِينَ، تَتَوَلَّوْهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنِ الْأَزْهَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيْمِكُمْ عَرَبِيًّا‏)‏ قَالَ‏:‏ فَلَمْ نَدْرِ مَا ذَلِكَ، حَتَّى أَتَوْا الْحَسَنَ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ، أَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏لَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيْمِكُمْ عَرَبِيًّا‏)‏، فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيْمِكُم‏)‏ “مُحَمَّدٌ “؛ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَلَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْك‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْمُشْرِكِينَ، يَقُولُ‏:‏ لَا تَسْتَشِيرُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏‏.‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏، أَمَّا ‏(‏الْبِطَانَةُ‏)‏، فَهُمُ الْمُنَافِقُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ لَا يَسْتَدْخِلُ الْمُؤْمِنُ الْمُنَافِقَ دُونَ أَخِيهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ‏.‏ وَقَرَأَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ‏:‏ وَدُّوا مَا ضَلَلْتُمْ عَنْ دِينِكُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مَا ضَلَلْتُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ‏:‏ ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فِي دِينِكُمْ، يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ أَنْ تَعَنَّتُوا فِي دِينِكُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏، فَجَاءَ بِالْخَبَرِ عَنْ ‏(‏الْبِطَانَةِ‏)‏، بِلَفْظِ الْمَاضِي فِي مَحَلِّ الْحَالِ، وَالْقِطَعِ بَعْدَ تَمَامِ الْخَبَرِ، وَالْحَالَاتُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِصُوَرِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبِلَةِ دُونَ الْمَاضِيَةِ مِنْهَا‏؟‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏ حَالٌ مِنْ ‏(‏الْبِطَانَةِ‏)‏، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْهُمْ ثَانٍ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ‏.‏ وَإِنَّمَا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً صِفَتَهُمْ كَذَا، صِفَتَهُمْ كَذَا‏.‏ فَالْخَبَرُ عَنِ الصِّفَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالصِّفَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مِنْ صِفَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏، مِنْ صِلَةِ الْبِطَانَةِ، وَقَدْ وَصَلَتْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا‏}‏، فَلَا وَجْهَ لِصِلَةٍ أُخْرَى بَعْدَ تَمَامِ “الْبِطَانَةِ “ بِصِلَتِهِ‏.‏ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا قَبْلُ، مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ عَنْ ‏(‏الْبِطَانَةِ‏)‏، غَيْرُ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَغَيْرُ حَالٌ مِنَ الْبِطَانَةِ وَلَا قِطَعَ مِنْهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قَدْ بَدَتْ بَغْضَاءُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَهَيْتُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَكُمْ ‏{‏مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏، يَعْنِي بِأَلْسِنَتِهِمْ‏.‏ وَالَّذِي بَدَا لَهُمْ مِنْهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، إِقَامَتُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعَدَاوَتِهِمْ مَنْ خَالَفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ‏.‏ فَذَلِكَ مِنْ أَوْكَدَ الْأَسْبَابِ فِي مُعَادَاتِهِمْ أَهْلَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَدَاوَةٌ عَلَى الدِّينِ، وَالْعَدَاوَةُ عَلَى الدِّينِالْعَدَاوَةُ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا إِلَّا بِانْتِقَالِ أَحَدِ الْمُتَعَادِيَيْنِ إِلَى مِلَّةِ الْآخَرِ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنْ هُدًى إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَتْ عِنْدَ الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهَا ضَلَالَةً قَبْلَ ذَلِكَ‏.‏ فَكَانَ فِي إِبْدَائِهِمْ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَقَامِهِمْ عَلَيْهِ، أَبْيَنُ الدَّلَالَةِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالْعَدَاوَةِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏، قَدْ بَدَتْ بُغَضَاؤُهُمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكُفْرِ، بِإِطْلَاعِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ‏.‏ وَزَعَمَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّ الَّذِينَ عَنَوْا بِهَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ النِّفَاقِ، دُونَ مَنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِالْكُفْرِ مِنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهُ الْمُنَافِقِينَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، مِنْ غِشِّهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَبُغْضِهِمْ إِيَّاهُمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ أَفْوَاهِ الْمُنَافِقِينَ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ إِنَّمَا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِمَّنْ قَدْ عَرَفُوهُ بِالْغِشِّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَالْبَغْضَاءِ، إِمَّا بِأَدِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ، وَإِمَّا بِإِظْهَارِ الْمَوْصُوفِينَ بِذَلِكَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّنَآنِ وَالْمُنَاصَبَةِ لَهُمْ‏.‏ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُثْبِتُوهُ مَعْرِفَةً أَنَّهُ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُخَالَّتِهِ وَمُبَاطَنَتِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونُوا نَهَوْا عَنْ مُخَالَّتِهِ وَمُصَادَقَتِهِ، إِلَّا بَعْدَ تَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهُمْ، إِمَّا بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، وَإِمَّا بِصِفَاتٍ قَدْ عَرَفُوهُمْ بِهَا‏.‏

وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ إِبْدَاءُ الْمُنَافِقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ بَغْضَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكَفَّارِ، غَيْرُ مُدْرِكٍ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مَعْرِفَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَهُمْ، مَعَ إِظْهَارِهِمِ الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَهُمْ وَالتَّوَدُّدَ إِلَيْهِمْ كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الَّذِي نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنُينَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِطَانَةً دُونَهُمْ، هُمُ الَّذِينَ قَدْ ظَهَرَتْ لَهُمْ بُغَضَاؤُهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، عَلَى مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، فَعَرَّفَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالصِّفَةِ الَّتِي نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، مِمَّنْ كَانَ لَهُ ذِمَّةٌ وَعَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا الْمُنَافِقِينَ، لَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِمْ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا‏.‏ وَلَوْ كَانُوا الْكُفَّارَ مِمَّنْ قَدْ نَاصَبَ الْمُؤْمِنِينَ الْحَرْبَ، لَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ مُتَّخِذِيهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، مَعَ اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَافْتِرَاقِ أَمْصَارِهِمْ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيَّامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ كَانَ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُهَدٌ وَعَقْدٌ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

وَ ‏(‏الْبَغْضَاءُ‏)‏، مَصْدَرٌ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏قَدْ بَدَا الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏)‏، عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ‏.‏ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ وَلَفْظُهُ لَفْظُ الْمُؤَنَّثِ، لِأَنَّ الْمَصَادِرَ تَأْنِيثَهَا لَيْسَ بِالتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ، فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا عَلَى لَفْظِ الْمُؤَنَّثِ وَتَأْنِيثِهِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 67‏]‏، وَكَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 157‏]‏، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ هُودٍ‏:‏ 94‏]‏ ‏{‏وَجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 73‏]‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏، وَإِنَّمَا بَدَا مَا بَدَا مِنَ الْبَغْضَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ الْكَلَامُ الَّذِي ظَهَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ بِأَلْسِنَتِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَالَّذِي تُخْفِي صُدُورَهُمْ يَعْنِي‏:‏ صُدُورُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً، فَتُخْفِيهِ عَنْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏أَكْبَرُ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ أَكْبُرُ مِمَّا قَدْ بَدَا لَكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَأَعْظَمُ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبُرُ مِمَّا قَدْ أَبْدَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أَكْبُرُ مِمَّا قَدْ أَبْدَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏118‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ‏}‏ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏الْآيَاتِ‏)‏، يَعْنِي بِـ ‏(‏الْآيَاتِ‏)‏ الْعِبَرَ‏.‏ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ نَهَيْنَاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَعْتَبِرُونَ وَتَتَّعِظُونَ بِهِ مِنْ أَمْرِهِمْ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ مَوَاعِظَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَتَعْرِفُونَ مَوَاقِعَ نَفْعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ، وَمَبْلَغَ عَائِدَتِهِ عَلَيْكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ هَا أَنْتُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ، يَقُولُ‏:‏ تُحِبُّونَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ نَهَيْتُكُمْ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَوَدُّونَهُمْ وَتُواصِلُونَهُمْ وَهُمْ لَا يُحِبُّونَكُمْ، بَلْ يُبْطِنُونَ لَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْغِشَّ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏‏.‏

وَمَعْنَى ‏(‏الْكِتَابِ‏)‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى الْجَمْعِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏كَثُرَ الدِّرْهَمُ فِي أَيْدِي النَّاسِ‏)‏، بِمَعْنَى الدَّرَاهِمِ‏.‏

فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏، إِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، كِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَكِتَابُهُمُ الَّذِي أَنْـزَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، تُؤْمِنُونَ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، وَتَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ كَفَّارٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، بِجُحُودِهِمْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ عُهُودِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَتَبْدِيلِهِمْ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ أَوْلَى بِعَدَاوَتِكُمْ إِيَّاهُمْ وَبُغَضَائِهِمْ وَغِشِّهِمْ، مِنْهُمْ بِعَدَاوَتِكُمْ وَبُغَضَائِكُمْ، مَعَ جُحُودِهِمْ بَعْضَ الْكُتُبِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِبَعْضِهَا‏.‏

كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏، أَيْ‏:‏ بِكِتَابِكُمْ وَكُتَّابِهِمْ وَبِمَا مَضَى مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ، مِنْهُمْ لَكُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ‏}‏ وَلَمْ يَقِلْ‏:‏ ‏(‏هَؤُلَاءِ أَنْتُمْ‏)‏، فَفَرَّقَ بَيْنَ “هَا وَ“أُولَاءِ “ بِكِنَايَةِ اسْمِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَذَلِكَ تَفْعَلُ فِي “هَذَا “ إِذَا أَرَادَتْ بِهِ التَّقْرِيبَ وَمَذْهَبَ النُّقْصَانِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى تَمَامِ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لِبَعْضِهِمْ‏:‏ أَيْنَ أَنْتَ، فَيُجِيبُ الْمَقُولُ ذَلِكَ لَهُ‏.‏ “هَا أَنَا ذَا “ فَتُفَرِّقُ بَيْنَ التَّنْبِيهِ وَ“ذَا “ بِمَكْنِيِّ اسْمِ نَفْسِهِ، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ‏:‏ ‏(‏هَذَا أَنَا‏)‏، ثُمَّ يُثْنِي وَيُجْمَعُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ وَرُبَّمَا أَعَادُوا حَرْفَ التَّنْبِيهِ مَعَ‏:‏ ‏(‏ذَا‏)‏ فَقَالُوا‏:‏ ‏(‏هَا أَنَا هَذَا‏)‏‏.‏ وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا كَانَ تَقْرِيبًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ التَّقْرِيبِ وَالنُّقْصَانِ قَالُوا‏:‏ ‏(‏هَذَا هُوَ‏)‏ ‏(‏وَهَذَا أَنْتَ‏)‏‏.‏ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ مَعَ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ، يَقُولُونَ‏:‏ ‏(‏هَذَا عَمْرٌو قَائِمًا‏)‏، إِنَّ كَانَ “هَذَا “ تَقْرِيبًا‏.‏ وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْمُكَنِّيِ مَعَ التَّقْرِيبِ، تَفْرِقَةً بَيْنَ ‏(‏هَذَا‏)‏ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى النَّاقِصِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى تَمَامٍ، وَبَيْنَهُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْمِ الصَّحِيحِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏تُحِبُّونَهُمْ‏)‏ خَبَرٌ لِلتَّقْرِيبِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبَانَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ- أَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَرَحْمَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَرَأْفَتِهِمْ بِأَهْلِ الْخِلَافِ لَهُمْ، وَقَسَاوَةِ قُلُوبِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَغِلْظَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏، فَوَاللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيُحِبُّ الْمُنَافِقَ وَيَأْوِي لَهُ وَيَرْحَمُهُ‏.‏ وَلَوْ أَنَّ الْمُنَافِقَ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْهُ، لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ‏:‏ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ لِلْمُنَافِقِ مِنَ الْمُنَافِقِ لِلْمُؤْمِنِ، يَرْحَمُهُ‏.‏ وَلَوْ يَقْدِرُ الْمُنَافِقُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَلَى مِثْلِ مَا يَقْدِرُ الْمُؤَمَّنُ عَلَيْهِ مِنْهُ، لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُ‏.‏

وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ‏:‏ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوهُمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِهِمْ، وَوَصْفَهُمْ بِصِفَتِهِمْ، إِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَوْهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ تَقِيَّةً حَذِرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ‏:‏ ‏(‏قَدْ آمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏)‏، وَإِذَا هُمْ خَلَوْا فَصَارُوا فِي خَلَاءٍ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، عُضْوًا- عَلَى مَا يَرَوْنَ مِنِ ائْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنَهُمْ- أَنَامِلَهُمْ، وَهِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِمْ، تَغَيُّظًا مِمَّا بِهِمْ مِنَ الْمُوجِدَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَسَىً عَلَى ظَهْرٍ يُسْنِدُونَ إِلَيْهِ لِمُكَاشَفَتِهِمِ الْعَدَاوَةَ وَمُنَاجِزَتِهِمِ الْمُحَارِبَةَ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏، إِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا‏:‏ ‏(‏آمَنَّا‏)‏، لَيْسَ بِهِمْ إِلَّا مَخَافَةٌ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَصَانَعُوهُمْ بِذَلِكَ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِمَّا يَجِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْكَرَاهَةِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ‏.‏ لَوْ يَجِدُونَ رِيحًا لَكَانُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ كَمَا نَعَتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بِمِثْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مِنَ الْغَيْظِ لِكَرَاهَتِهِمِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُقَلْ‏:‏ ‏(‏لَوْ يَجِدُونَ رِيحًا‏)‏، وَمَا بَعْدَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ‏:‏ كَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمُ الْإِبَاضِيَّةُ‏.‏

وَ “الْأَنَامِلُ “ جَمْعُ “أُنْمُلَةٍ “ وَيُقَالُ ‏(‏أُنْمُلَةٌ‏)‏، وَرُبَّمَا جَمَعَتْ ‏(‏أَنْمُلَا‏)‏، قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَوَدُّكُمَـا، مَـا بَـلَّ حَـلْقِيَ رِيقَتِـي *** وَمَـا حَـمَلَتْ كَفَّـايَ أَنْمُـلِيَ الْعَشْـرَا

وَهِيَ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ؛ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏الْأَنَامِلُ‏)‏، أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، بِمِثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ‏}‏، الْأَصَابِعُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَضُّوا عَلَى أَصَابِعِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ ‏(‏119‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏قُلْ‏)‏، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَتْ لَكَ صِفَتَهُمْ، وَأَخْبَرَتْكَ أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا أَصْحَابَكَ قَالُوا‏:‏ آمِنًا، وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏:‏ ‏{‏مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ‏}‏ الَّذِي بِكُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَائْتِلَافِ جَمَاعَتِهِمْ‏.‏

وَخَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ مُخْرِجَ الْأَمْرِ، وَهُوَ دُعَاءٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ، كَمَدًا مِمَّا بِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، قَبْلَ أَنْ يَرَوْا فِيهِمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ مِنَ الْعَنَتِ فِي دِينِهِمْ، وَالضَّلَالَةِ بَعْدَ هُدَاهُمْ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ أَهْلَكُوا بِغَيْظِكُمْ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ ذُو عِلْمٍ بِالَّذِي فِي صُدُورٍ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، قَالُوا‏:‏ ‏(‏آمَنَّا‏)‏، وَمَا يَنْطَوُونَ لَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْغِلِّ وَالْغَمِّ، وَيَعْتَقِدُونَ لَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَبِمَا فِي صُدُورِ جَمِيعِ خَلْقِهِ، حَافِظٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ مَا هُوَ عَلَيْهِ مُنْطَوٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، حَتَّى يُجَازِيَ جَمِيعَهُمْ عَلَى مَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَاعْتَقَدَ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَانْطَوَى عَلَيْهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصِيحَةٍ، أَوْ غِلٍّ وَغِمْرٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ ‏[‏120‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ‏}‏، إِنْ تَنَالُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، سُرُورًا بِظُهُورِكُمْ عَلَى عَدْوِكُمْ، وَتَتَابُعِ النَّاسِ فِي الدُّخُولِ فِي دِينِكُمْ، وَتَصْدِيقِ نَبِيِّكُمْ وَمُعَاوَنَتِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ يَسُؤْهُمْ‏.‏ وَإِنْ تَنَلْكُمْ مَسَاءَةٌ بِإِخْفَاقِ سِرِّيَّةٍ لَكُمْ، أَوْ بِإِصَابَةِ عَدُوٍّ لَكُمْ مِنْكُمْ، أَوِ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَتِكُمْ يَفْرَحُوا بِهَا‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا‏}‏، فَإِذَا رَأَوْا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أُلْفَةً وَجَمَاعَةً وَظُهُورًا عَلَى عَدْوِهِمْ، غَاظَهُمْ ذَلِكَ وَسَاءَهُمْ، وَإِذَا رَأَوْا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فُرْقَةً وَاخْتِلَافًا، أَوْ أُصِيبَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْمُسْلِمِينَ، سَرَّهُمْ ذَلِكَ وَأُعْجِبُوا بِهِ وَابْتَهَجُوا بِهِ‏.‏ فَهُمْ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ أَكْذَبَ اللَّهُ أُحْدُوثَتَهُ، وَأَوْطَأَ مَحِلَّتَهُ، وَأَبْطَلَ حُجَّتَهُ، وَأَظْهَرَ عَوْرَتَهُ، فَذَاكَ قَضَاءُ اللَّهِ فِيمَنْ مَضَى مِنْهُمْ وَفِيمَنْ بَقَّى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، إِذَا رَأَوْا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَمَاعَةً وَظُهُورًا عَلَى عَدْوِهِمْ، غَاظَهُمْ ذَلِكَ غَيْظًا شَدِيدًا وَسَاءَهُمْ‏.‏ وَإِذَا رَأَوْا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِرْقَةً وَاخْتِلَافًا، أَوْ أُصِيبَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْمُسْلِمِينَ، سِرَّهُمْ ذَلِكَ وَأُعْجِبُوا بِهِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حُسْنَةٌ تَسُؤْهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِذَا رَأَوْا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جَمَاعَةً وَأُلْفَةً سَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَوْا مِنْهُمْ فِرْقَةً وَاخْتِلَافًا فَرِحُوا‏.‏

وَأَمَّاقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَإِنْ تَصْبِرُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ‏:‏ مِنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ مَا نَهَاكُمْ “وَتَتَّقُوا “ رَبَّكُمْ، فَتَخَافُوا التَّقَدُّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِيمَا أَلْزَمَكُمْ وَأَوجِبَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ ‏{‏لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏، أَيْ‏:‏ كَيْدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ‏.‏

وَيَعْنِي بِـ ‏(‏كَيَدِهِمْ‏)‏، غَوَائِلَهُمُ الَّتِي يَبْتَغُونَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَكْرَهُمْ بِهِمْ لِيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْهُدَى وَسَبِيلِ الْحَقِّ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏لَا يَضُرُّكُمْ‏)‏‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ‏:‏ ‏(‏لَا يَضُرُّكُمْ‏)‏ مُخَفَّفَةٌ بِكَسْرِ ‏(‏الضَّادِ‏)‏، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏ضَارَنِي فُلَانَ فَهُوَ يَضِيرُنِي ضَيْرًا‏)‏‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ‏:‏ ‏(‏مَا يَنْفَعُنِي وَلَا يَضُورُنِي‏)‏، فَلَوْ كَانَتْ قُرِئَتْ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ لَقِيلَ‏:‏ ‏{‏لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهِ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ ‏{‏لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ بِضَمِّ “الضَّادِ “ وَتَشْدِيدِ ‏(‏الرَّاءِ‏)‏، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ضَرَّنِي فُلَانٌ فَهُوَ يَضُرُّنِي ضَرًا “‏.‏

وَأَمَّا الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا يَضُرُّكُمْ‏)‏، فَمِنْ وَجْهَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ عَلَى إِتْبَاعِ “الرَّاءِ “ فِي حَرَكَتِهَا إِذْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْجَزْمَ، وَلَمْ يُمْكِنْ جَزْمُهَا لِتَشْدِيدِهَا أَقْرَبَ حَرَكَاتِ الْحُرُوفِ الَّتِي قَبِلَهَا‏.‏ وَذَلِكَ حَرَكَةُ “الضَّادِ “ وَهِيَ الضَّمَّةُ، فَأُلْحِقَتْ بِهَا حَرَكَةُ الرَّاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، كَمَا قَالُوا‏:‏ ‏(‏مُدَّ يَا هَذَا‏)‏‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ وَجْهِي الرَّفْعِ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً عَلَى صِحَّةٍ، وَتَكُونُ “لَا “ بِمَعْنَى ‏(‏لَيْسَ‏)‏، وَتَكُونُ “الْفَاءُ “ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْجَزَاءِ، مَتْرُوكَةً لِعِلْمِ السَّامِعِ بِمَوْضِعِهَا‏.‏

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا، فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا- ثُمَّ تُرِكَتْ “الْفَاءُ “ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ‏}‏، وَوُجِّهَتْ “لَا “ إِلَى مَعْنَى ‏(‏لَيْسَ‏)‏، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَـإِنْ كَـانَ لَا يُـرْضِيكَ حَـتَّى تَرُدَّنِي *** إِلَـى قَطَـرِيٍّ، لَا إِخَـالُكَ رَاضِيَـاٍ

وَلَوْ كَانَتْ “الرَّاءُ “ مُحَرِّكَةً إِلَى النَّصْبِ وَالْخَفْضِ، كَانَ جَائِزًا، كَمَا قِيلَ‏:‏ مُدَّ يَا هَذَا، وَمُدِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يُعْمِلُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَالْعَدَاوَةِ لِأَهْلِ دِينِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ “مُحِيطٌ “ بِجَمِيعِهِ، حَافِظٌ لَهُ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهُ، حَتَّى يُوَفِّيَهُمْ جَزَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُذِيقَهُمْ عُقُوبَتَهُ عَلَيْهِ‏.‏